التعليم الرسميّ في لبنان : الهَرَم يقف على رأسه
الدكتور حسن اسماعيل *
يشهد قطاع التربية والتعليم الرسميّ في لبنان حالة من التردّي والتراجع، قد تُفضي إلى تهديد وجوده، أو إلى بقائه في حال موت سريريّ يحتاج إلى نَطاسيّ ماهر ليعود إلى ممارسة دوره الطبيعيّ في إنتاج تعليم لائق يساير التطوّر التكنولوجيّ وطرائق التدريس الحديثة، ليكون قادراً على النهوض بالبلاد لمواكبة التطوّر. ولهذه الحال مظاهرُها وأسبابُها، كما تفترض حلولا تستوجب أشكالا تنظيميّة مرنة قادرة على صياغة برنامج نضاليّ قادر على تجنيد أوسع الفئات الشعبيّة ذات المصلحة في تطوير التعليم، و للحؤول دون انهيار هذا القطاع ، بل من أجل تعزيز مستواه ليحتلّ المرتبة الأولى من حيث الاستيعاب والنوعيّة.
1– مظاهر التردّي :
أ – غلبة التعليم الخاص: ولعلّ أول مظاهر التردّي يوفّره التراجع المخيف في حصة التعليم الرسميّ من العدد الإجماليّ للطلاب اللبنانيين بالمقارنة مع حصّة التعليم الخاص؛ إذ تشير النشرة الإحصائيّة للمركز التربويّ للبحوث والإنماء إلى تراجع نسبة المنتسبين إلى التعليم الرسميّ في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، فبعد الارتفاع التصاعديّ الملحوظ في نسبة طلاب المدرسة الرسميّة بين العامين الدراسيّين 1996- 1997 و2001- 2002 من 33% من إجمالي الطلاب اللبنانيّين، في مقابل ما يقارب 67% للتعليم الخاص بشقيْه المجّانيّ وغير المجّانيّ، إلى ما يقارب39% للتعليم الرسميّ و61% للتعليم الخاص، يلحظ الباحث تراجعا يثير تساؤلات كثيرة حول مصير التعليم الرسميّ. وتشير إحصاءات العام الدراسيّ 2004-2005 إلى تراجع نسبة عدد تلاميذ المدرسة الرسميّة إلى 36،82% بالمقارنة مع إجماليّ عدد الطلاّب، ليستمر الانحدار إلى 28،4% في العام الدراسيّ 2014-2015، الأمر الذي يقتضي وقفة جِدّيّة للحؤول دون انهيار المدرسة الرسميّة، بل لإعادة التوازن إلى نوعيّة التعليم الرسميّ .
.
ب – التعليم الطوائفي : ويبدو ثاني هذه المظاهر في استحواذ التعليم الطوائفيّ على غالبيّة الطلاّب بعد أن أرست كلّ طائفة مؤسّساتها التعليميّة عاموديّا، من الروضة إلى الجامعة، بالاستناد إلى قوانين تعمّدت بتحريض طائفيّ شبه متوازن، نتج منه انزواء رعايا الطوائف في مؤسّساتها التعليميّة .
وتشير النشرة الإحصائيّة للمركز التربويّ إلى أنّ المدارس الخاصّة غير المجّانيّة في ضاحيتيْ بيروت – على سبيل المثال – تستقطب 18% من العدد الإجماليّ لطلاّب لبنان، في حين ينتسب إلى المدارس الرسميّة 2،6% وإلى المدارس الخاصّة المجّانيّة 2،8% . وهذا يعني أنّ التعليم الخاص في ضواحي بيروت وحدها يضمّ أكثر من خُمْس طلاب لبنان. ولا يخفى أنّ هذا التعليم بات في غالبيّته تعليماً طوائفيّاً، يقسّم المجتمع عاموديّاً، ويشكّل مخاطر جدّية على الانتماء الوطنيّ.
ج – انقلاب الهَرَم التعليميّ: لعلّ أهمّ أمارات نجاح المؤسّسة التربويّة هي – في نظري – أن ترفد المراحلُ الدنيا من مؤسّسات التعليم، المراحلَ العليا بكفايتها من الطلاّب؛ فمتى عجزت كلّ مرحلة تعليميّة عن رفد المرحلة الأعلى بحاجتها من الطلاب آلتْ المؤسّسة التربويّة إلى السقوط. وما يثير القلق على المدرسة الرسميّة هوالتباين الكبير بين القطاعين الرسميّ والخاص في توزيع الطلاب على مراحل التعليم، إذ تشير الإحصاءات إلى أنّ هَرَم التعليم الرسميّ يقف على رأسه، الأمر الذي يهدِّد بقاءه قطاعا منتجا، ويثير شهيّة من يتآمرون عليه، ولا يكفّون عن الدعوة إلى تخصيص التعليم، وتلزيمه إلى القطاع الخاص، بعدما فشلت الدعوات إلى ما عُرِف بالضمان التربويّ في تسعينات القرن الماضي، ولا سيّما مع ظهور ” الترويكا” التي راحت تضع يدها على مؤسّسات الدولة ومرافقها. وتُظهر الإحصاءات الرسميّة للعام الدراسيّ 2015- 2016 أنّ 3،9% من طلاب لبنان ينتسبون إلى مرحلة الروضة في المدارس الرسميّة، مقابل 15% ينتسبون إلى المدارس الخاصة. ولعلّ مردّ ذلك يعود إلى سياسة الدولة التي تحدّد سنّ الدخول إلى المدرسة الرسميّة بإتمام أربع سنوات قبل نهاية كانون الأوّل من كل عام، في حين أنّ الروضات في المدارس الخاصّة تستقبل الأطفال في عمر ثلاث سنوات، حتى إنّ الحدائق الخاصّة تستقبل الأطفال في عمر السنتين. وهذا التمييز القانونيّ يحرم أبناء الفئات الشعبيّة من تكافؤ الفرص، ويحول دون دخولهم المدرسة في العمر الذي يدخل فيه أولاد الميسورين، الأمر الذي يؤدّي إلى التسرّب المدرسيّ، أو إلى تعبيد الطريق بين المدرسة الرسميّة والتعليم المهنيّ، من دون تأمين الرابط العلميّ المشترك الذي يوفّر تبادلا سليماً بين التعليم العام والتعليم المهنيّ. ويُظهر الجدول الإحصائيّ لتوزّع تلاميذ التعليم الرسميّ بحسب الوضع التعلّميّ عند التسجيل بالنسبة إلى المرحلة والصف في السنة الدراسيّة 2015- 2016 أنّ صفّ الروضة الأولى ضمّ 7367 مترفّعاً في مقابل 13709 من البيت، وهؤلاء المترفّعون وَفَدوا من التعليم الخاص.وضمّ صف الروضة الثانية 16415 مترفّعا و5073 من البيت. والطامّة الكبرى تظهر في دخول 3529 طفلا الصف الأول الابتدائيّ من البيت مباشرة. فانظر كيف يكون وضع الصف الأول الابتدائيّ في هذا الخليط غير المتكافئ بين طلاب دخلوا المدرسة لأوّل مرّة، وزملاء أمضوا سنة في المدرسة، وآخرين أمضوا سنتينن، ناهيك بالمعيدين الذين يشكّلون نسبة لا يُستهان بها؛ إذ تصل نسبتهم في المرحلة الأولى من التعليم الأساسيّ إلى 16%، مع أنّ الترفيع فيها آليّ، في حين يتراوح عدد المعيدين بين 20 و25% في صفوف المرحلة الثانية، لتصل النسبة إلى 29،5% في الصف السابع الأساسيّ، وإلى 19،42% في الصف الثانويّ الأوّل.
وأمّا التأخُّر المدرسيّ في التعليم الرسميّ فيسجّل نسبة عالية ترتفع تدريجاً كلّما ارتفع الصف، وتشير النشرة الإحصائيّة السنويّة للعام الدراسيّ 2015 – 2016 إلى أن عدد المتأخّرين في السنة الأولى الابتدائيّة بلغ 7489 تلميذا من أصل 22287 تلميذاً أي بنسبة 6، 33% بينهم 2078 متأخراً لمدة سنتين فما فوق، منهم 426 تلميذا تتراوح أعمارهم بين 9 و14 سنة، حتى إنّ نسبة التأخر في المدرسة الرسميّة وصلت إلى 51% في الصفّ السادس، منهم 60% متأخرون لأكثر من سنتين أي ما نسبته 30،6% من العدد الإجماليّ لطلاب الصف السادس. وعلى العموم فإنّ نسبة التأخر في مرحلة الروضة بلغت 9،4%، في حين بلغت في الحلقتين الأولى والثانية من التعليم الأساسيّ 43،9%. وأما الحلقة الثالثة من مرحلة التعليم الأساسيّ فبلغت نسبة التأخر فيها، في العام الدراسيّ ذاته، 52،7%، أكثر من نصفهم متأخر سنتين فما فوق، في حين وصلت النسبة في المرحلة الثانويّة إلى 36،5%،بينهم ما يقارب 40% منهم من المتأخّرين سنتين فما فوق. ومن المفيد الإشارة هنا إلى أنّ أكثر المدارس الخاصة ترفض المعيدين، وترميهم إلى التعليم الرسميّ، وبخاصّة من صفوف الشهادات أو الصفوف القريبة منها، لتحتفظ بنسبة تفوّق في الامتحانات الرسميّة. ويُعتبرهذا التأخر عاملا من عوامل فقدان الثقة بالتعليم الرسميّ، يُفضي إلى الهروب منه نحو التعليم الخاص.
وما يلفت الانتباه في النشرة الإحصائيّة السنويّة هو انقلاب التفاوت في المرحلة الثانويّة، وتقارب النسب بين التعليم الرسميّ والتعليم الخاص؛ إذ بلغت نسبة الطلاب الثانويين في الثانويات الرسميّة 5،5 و5،3% من مجموع عدد طلاب لبنان، تباعا في العامين الدراسيّين 2014- 2015 و2015-2016 مقابل 7،1 و6،8% في التعليم الخاص . ويعود هذا التقارب إلى أمرين هما احتفاظ التعليم الثانويّ الرسميّ – على الرغم من نسبة التأخّر – بمستوى تعليميّ مرضى عنه، من جهة، وعجز أولياء الطلاب عن دفع الأقساط في الثانويات الخاصّة، من جهة أخرى. وإذا كانت هذه الثقة بالتعليم الثانويّ الرسميّ علامة إيجابيّة، فإنّها في الوقت ذاته علامة سلبيّة تدلّ على ضعف الثقة بالمدرسة الرسميّة في مرحلتي الروضة والتعليم الأساسيّ في حلقاته الثلاث.
إنّ تأخُّر هذه الأعداد عن دخول المدرسة الرسميّة، معطوفاً على نِسب الرسوب في الصفوف الأولى، يثير القلق حول مصير التعليم الرسميّ، على الرغم من تقارب أعداد الطلاب في المرحلة الثانويّة بين التعليم الرسميّ والتعليم الخاص، والنتائج العالية التي تحقّقها الثانويّات الرسميّة. ونستطيع القول إنّ وقوف الهرم التعليميّ على رأسه نذير خطر تجب مكافحته قبل استفحال أمر التعليم الرسميّ، ووضعه على مشرحة التصفية.
د- ظاهرة الطلاب السوريّين : منذ بدء الأزمة السوريّة والمدرسة الرسميّة تقع ضحيّة سياسة مقصودة تهدف إلى تهميشها وإرهاقها بأعداد النازحين السوريّين، الذين اتُّخِذت بعض المدارس في مناطق النزوح مأوى لهم، قبل أن ينتشروا على الأراضي اللبنانيّة، ويقاسموا طلاب لبنان مقاعد الدراسة، فضلا عن اقتطاع ما لا يقلّ عن ساعة دراسة يوميّة من حصّة طلاب المدرسة الرسميّة، وهي تُقتطع على حساب حصص الكمبيوتر والنشاطات واللغة الأجنبيّة الثانية، الأمر الذي يُسهم في تعثُّر التعليم الرسميّ في مراحله كافّة، ويزيد في الفروق التعلّميّة بين القطاعين الرسميّ والخاص . وتشير إحصاءات وزارة التربية وبرنامج الأمم المتّحدة الذي يهتم بالنازحين السوريّين إلى أنّ عدد الطلاب السوريّين الذين يتعلمون في المدارس الرسميّة في الدوام الثاني يفوق 250 ألفاً، وينتشرون على الأراضي اللبنانيّة من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، في حين بلغ عدد السوريّين الذين يتلقوْن تعليما بحسب المناهج اللبنانيّة في المدارس الرسميّة 63435، للعام الدراسيّ 2013-2014، بنسبة 20،45% من مجموع طلاب المدرسة الرسميّة، وتراجع العدد في العام الدراسيّ 2015-2016 إلى 57934 طالبا، أي ما نسبته 18،4%، من مجموع طلاب المدرسة الرسميّة .
إنّ هذا العدد الوافر من التلاميذ السوريّين يشكّل مصدراً لاستمرار عمل عدد كبير من المدارس الرسميّة في لبنان؛ فهناك قسم من هذه المدارس مهدّد بالإقفال في حال مغادرتهم هذه المدارس، كما أنّ مدارس أخرى يضطرب العمل فيها بسبب الفروق المدرسيّة بين التلاميذ اللبنانيّين والسوريّين، في مواد كثيرة منها اللغة الأجنبيّة والعلوم والرياضيّات. وهذا يعني أنّ طفرة الطلاّب السوريّين في المدارس الرسميّة تشكّل في ظاهرها عاملا إيجابيّياً لجهة استمرار العمل في هذه المدارس الرسميّة، ولكنّها، في الوقت ذاته، ليست سوى أمارة على دنوّ انهيار المدرسة الرسميّة في كثير من المدارس، وهي في غالبها تنتمي إلى مناطق الفقراء.
2- السياسة التربويّة : يُعتَبَر التعليم خادما للنظام التربويّ الذي يعبّر بدوره عن البِنية الفكريّة للمجتمع، ويتكيّف مع حاجاته، ولهذا تضع السلطة السياسيّة الخطط التربويّة التي تتلاءم مع مصالح النظام، الأمر الذي يصنّف التربية ركناً من أركان البناء الفوقيّ للنظام السياسيّ، له وظيفتان : الأولى نشر أيديولوجيا النظام، والثانية تأمين الملاكات الوظيفيّة لأجهزة الدولة على اختلافها .
وقد شهد التعليم الرسميّ طفرة من النموّ استمرّت حتى قُبيْل الحرب الأهليّة سنة 1975، فانتشرت المدارس الرسميّة في المناطق النائية، وأقبل التلاميذ على التعلّم بكثافة. بَيْد أنّ أكثر المدارس، ولا سيّما المدارس البعيدة من المدن، كانت تشكو من الحاجة إلى المعلّمين، في حين كانت مدارس العاصمة والمدن الكبيرة تعيش حالة من الاكتفاء، الأمر الذي يوفّر لأفراد الهيئة التعليميّة فرصة متابعة التعليم الثانويّ ( في المدارس المسائيّة الخاصّة) والجامعيّ. وكانت هذه الطفرة من ثمار السياسة الشهابيّة التي أسهمت في نشر التعليم الرسميّ، آخذةً بتوصيات بعثة إرْفِد برئاسة الأب لوبريه .
وإذ أدّت هذه الطفرة وظيفتها في انتشار التعليم الرسميّ بنسبٍ متفاوتة، في المناطق اللبنانيّة، قريبها وبعيدها من العاصمة ومراكز المحافظات والأقضية، فقد كان لها نتائج متعدّدة، من أهمّها :
أ – إقبال واسع على المدرسة الرسميّة؛ فقد نشط أولياء الأمور في إرسال أولادهم إلى المدرسة، بحيث لم تعد الأبنية المدرسيّة تتّسع للأعداد المتزايدة من التلاميذ . ولا بدّ من الإشارة هنا إلى التفاوت الواسع في أعمار التلاميذ الذين ينتمون إلى الصف الواحد. وكان هذا الأمر واضحا في قرى الجنوب والبقاع والشمال .
ب – تلبية حاجة المجتمع، ولاسيّما القطاع العامّ، إلى الملاكات الوظيفيّة التي كانت تتطلّب عدداً وافرأ من حملة الشهادات ما قبل الجامعيّة، وهي وظائف الفئة الرابعة، من المعلّمين والكتّاب والمحرّرين ورؤساء الأقسام. فضلاً عن ذلك أسهمت الجامعة اللبنانيّة في ملء بعض المراكز الوظيفيّة للفئة الثالثة وما فوق، غير أنّها اقتصرت على الكلّيّات النظريّة، حيث كانت تضم كلّيّات الآداب والعلوم والحقوق والتربية ومعهدي الفنون والعلوم الاجتماعيّة، ولم تخرج الكلّيّات التطبيقيّة إلى النور قبل عام 1970، حين ظهر معهد العلوم التطبيقيّة .
ج – كانت وظيفة المدرسة الرسميّة محدودة السقف، إذ قيّدتها السياسة التربويّة للدولة بقيد طبقيّ، تمثّل بمكانة اللغة الأجنبيّة في المناهج الرسميّة، حيث فرضتها لتدريس العلوم والرياضيّات، وأحيانا لتدريس التاريخ والجغرافيا، ناهيك بالعلامة اللاغية في الشهادات الرسميّة، فضلا عن اعتبارها لغة للتدريس في كلّيات الحقوق والتربية. وفي هذا الأمر ما يحدّ من وصول أبناء الفئات الشعبيّة إلى مستويات دراسيّة عالية، وغيابهم عن اختصاصات لها دورها في الحياة السياسيّة، من مثل الحقوق والعلوم السياسيّة التي تشكّل العامود الفقريّ لقيادات الدولة، من رؤساء ونوّاب ووزراء وسفراء ومديرين عامّين . وهكذا كان للتعليم الرسميّ وظيفة محدودة، لايستطيع خرقها إلاّ القلائل .
د – أسهم التعليم الرسميّ في انتشار الوعي السياسيّ المناهض للنظام، وللإقطاع السياسيّ بخاصّة، فكانت المدرسة الرسميّة مصدر إزعاج للسلطة السياسيّة، تظافرت فيه عوامل كثيرة، فامتزج النضال الطبقيّ، النقابيّ والسياسيّ، بالنضال القوميّ، فكانت دور المعلّمين والثانويّات الرسميّة رافداّ لليسار اللبنانيّ بالمناضلين الذين أدّوا دورا كبيرا في نهوض الحركة الشعبيّة اللبنانيّة . ويكفي أن نذكر أنّ ما يقارب ثمانمئة معلّم من الجنوب وحده، أحيلوا سنة 1974إلى التفتيش التربويّ والمجلس التأديبيّ، وعوقبوا نتيجة انتماءاتهم السياسيّة، بتأخير التدرّج أو بالإبعاد عن قراهم إلى مناطق نائية شمالاً وبقاعاً، أو بالعقوبتين معاً، لبيان الدور الخطير الذي باتت المدرسة الرسميّة تمثّله في الحياة العامّة في لبنان.
هـ – سعت البرجوازيّة اللبنانيّة إلى تحويل وجهة الصراع من صراع سياسيّ طبقيّ إلى صراع طائفيّ، وقد نجحت من خلال افتعال المجازر الطائفيّة هنا وهناك . وجاء اتّفاق الطائف ليكرّس هذا الانقسام. ولنجاح القوى الطائفيّة في مهمّتها كان لا بدّ من تعزيز التعليم الطوائفيّ على حساب التعليم الرسميّ، الذي يخدم إيديولوجيا الانقسام الطائفيّ؛ فانتشرت مؤسّسات تعليميّة خاصة بكل طائفة، شكّلت انقساماً تعليميّاً عاموديّاً، من الروضة حتى الجامعة. ومن هنا لجأت السلطة إلى تهميش التعليم الرسميّ، بغية إضعاف دوره، تمهيداً لإلغائه، بحجّة عدم التناسب بين التكلفة والمردود، بما يجعل التعليم سلعة ً خاضعة للربح والخسارة .
لقد سعى أركان السلطة، وهم بكامل قواهم العقليّة، إلى إلغاء مؤسّسات تأهيل المعلّمين والأساتذة، من دور المعلّمين إلى كلّيّة التربية، و إلى إخراجها من وظيفتها، وتحويلها إلى مراكز تدريب موسميّة، مستعيضة عنها “بجيش” من المتعاقدين غير المؤهّلين للتعليم . ودأب وزراء التربية المتعاقبون منذ ثمانينات القرن الماضي، إلى التعاقد مع آلاف المعلمين والأساتذة، في رشوة سياسيّة ظاهرها تأمين فرص عمل لحملة الشهادات، وباطنها ضرب للتعليم الرسميّ . وتشير النشرة الإحصائيّة السنويّة للمركز التربويّ للبحوث والإنماء عن العام الدراسيّ 2015 – 2016،إلى أنّ عدد أفراد الهيئة التعليميّة في المدارس والثانويّات الرسميّة بلغ 42549 أستاذا ومعلّماً، منهم 16185 متعاقداً، أي ما نسبته 38،03% من العدد الإجماليّ. وهذا العدد مرشّح للزيادة بفعل غياب المباريات المفتوحة، ولملء الشواغر الناجمة عن تقاعد عدد من أفراد الهيئة التعليميّة، وأكثرهم من أصحاب الخبرة والكفاءة.
ويأتي ارتفاع أعداد المعلّمين المتعاقدين في سياق سياسة الدولة التي تهدف إلى تصفية القطاع العامّ إنفاذا لرغبة البنك الدوليّ وصندوق النقد الدوليّ، وهو ما أوصت به المؤتمرات المتتالية في باريس وبيروت . ويبدو أنّ هذه السياسة لا ينفرد لبنان بها، بل هي توجّهات النظام الرأسماليّ العالميّ الساعية إلى تصفية القطاع العام في البلدان التي تعاني من أزمات اقتصاديّة، فتلجأ إلى تخفيض تعويضات نهاية الخدمة تدريجا لتصل إلى نصف الراتب الأخير، بالترافق مع زيادة أعداد المتعاقدين على طريق التعاقد الوظيفيّ.
إنّ حشو التعليم الرسميّ بهذا الكمّ الكبير من المتعاقدين، مع حرمان هؤلاء من كلّ أشكال الضمانات، يُفضي إلى إفراغ التعليم الرسميّ من أحد أركان بقائه فاعلاً مؤثّراً، فيتحوّل إلى جسد هزيل ينتظر الموت.
وليست سياسة إهمال التعليم الرسميّ مقتصرة على التعاقد الوظيفيّ؛ فبالإضافة إلى التمييز غير البريء الذي يمنح أطفال الميسورين فرصة دخول المدرسة الخاصّة قبل سنة أو سنتين من زملائهم في التعليم الرسميّ، نلاحظ إهمال الدولة تنفيذ القوانين التي سنّتها لحماية الأطفال، حيث تتغاضى عن إلزاميّة التعليم لمن تقلّ أعمارهم عن ثلاث عشْرة سنة، وتترك هؤلاء تحت رحمة عصابات منظّمة تقودهم إلى مهبّ التسوّل . ولعلّ هذا الأمر أحد أسباب التأخّر المدرسيّ الذي أشرنا إليه آنفاً. فضلاً عن ذلك لا بدّ من الإشارة إلى مسألة تعليم الموادّ الإجرائيّة؛ فقد مضت عشرون سنة على تطبيق المناهج الحاليّة، ولمّا تؤهّل الدولة المدارس الرسميّة بالتكنولوجيا اللازمة إلاّ في مناطق محظوظة سياسيّاً وجغرافيّاً، في حين تحرم مئات المدارس والثانويّات الرسميّة من هذه المعدّات. ويضاف هذا الإهمال إلى حرمان المدرسة الرسميّة من أساتذة لتعليم التكنولوجيا، إذ لم تُجرَ قبل السنة الماضية أيّ مباراة خاصة بهم، كما يُهمل تدريس اللغة الأجنبيّة الثانية إلاّ في المدارس والثانويّات التي تتكفّل بدفع نفقات هذا التعليم، بما يعني تخلّي الدولة عن واجباتها في تنفيذ مناهج وضعتها وشرّعتها .
وتأتي سياسة تهميش المدرسة الرسميّة في سياق سياسة تهميش القطاع العام الذي يحرم منذ عام 1998 من سلسلة رتب ورواتب توافق تصحيحاً للأجور يساوي التضخّم في هذه المرحلة، حتى إنّ هذه السياسة تهدف إلى حرمان القطاع التعليميّ من المكاسب التي حقّقها الأساتذة والمعلّمون في نضالهم على مدى أكثر من نصف قرن.
وباختصار نستطيع القول إنّ سياسة الدولة نحو التعليم الرسميّ، وإهمال المدرسة والتلميذ والمعلّم معاً، تفضي إلى إلغاء تدريجيّ لدور المدرسة الرسميّة، بعد أن فقد التعليم ما دون الجامعيّ وظيفته في تخريج مرشّحين للوظائف العامّة، حيث باتت أكثر الوظائف تتطلّب شهادة جامعيّة، تتنافس فيها الجامعة اللبنانيّة وجامعات الطوائف، الأمر الذي يجعل التعليم الرسميّ يسيرنحو الانحدار القاتل، ويفرض على القوى الديموقراطيّة وهيئاتها النقابيّة مهمّات كبيرة لاستعادة دور الحركة الشعبيّة اللبنانيّة في الدفاع عن مصالح الشعب اللبنانيّ.
3 – الوضع النقابيّ :
– تتعرض الحركة النقابيّة في لبنان، منذ اتفاق الطائف، إلى حملة شعواء لاحتوائها، وتدجينها، وإلغاء دورها، وقطع دابرها. وقد برزت مظاهر هذه الحملة في تفريخ مفتعل لنقابات كثيرة للمهنة الواحدة، ولاتحادات متشابهة، فظهر الاتحاد العمالي العام جسدا بلا روح، وضباطا بلا جنود. وباتت وظيفته تقتصر على تعقيب معاملات من خلف المكاتب، حتى غدا احتفال عيد العمال العالميّ يجري في قاعة مقفلة بحضور أصحاب العمل، وغياب أصحاب العيد.
وفي هذا السياق كانت هيئة التنسيق النقابيّة تؤدي الدور المنوط بالاتحاد العماليّ العام، وتغطي الفراغ الذي تركه تحييده وخيانة قيادته مصالح الطبقة العاملة اللبنانيّة .ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ نقاط القوة في هيئة التنسيق النقابيّة هي نقاط ضعفها، في الوقت نفسه؛ فهي هيئة تجمع فئات وظيفيّة لها مصالح مشتركة، تتمثّل في وحدة المطالب المتعلقة بتصحيح الأجور، وتختلف في نسب التصحيح، والموقع الوظيفيّ، الأمر الذي يسهم إلى حدّ كبير في بروز خلافات تهدّد وجودها ووظيفتها. وقد برزت محاولة السلطة وضع اليد على مكوّنات هئية التنسيق، في محاصصة فاضحة للمواقع القياديّة للهيئات المكوّنة لها، وهذا ما أثمر ثلاث سنوات من ركود النضال النقابيّ.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ ولادة التيّار النقابيّ المستقل جاءت ردّا طبيعيّاً على خواء العمل النقابيّ للاتحاد العمّاليّ العام وهيئة التنسيق النقابيّة على السواء. وقد راح يأخذ مكانه الطبيعيّ، باعتباره محفّزا للرابطات لتقوم بدورها المنوط بها، وربّما سيجد نفسه مضطرّاً إلى القيام بخطوات وتحرّكات منفصلة، تحدّدها الظروف اللاحقة، في ضوء ما سيؤول إليه وضع هيئة التنسيق النقابيّة والاتّحاد العمّليّ العامّ.
4 – المهمات :
إنّ الردّ الطبيعيّ على سياسة ضرب التعليم الرسميّ تفرض على الحركة الشعبيّة وقواها السياسيّة والنقابيّة النضال من أجل الحفاظ على المدرسة الرسميّة، وتطويرها لتواكب العصر، بما يسمح بتكافؤ الفرص أمام اللبنانيّين، لتلقّي تعليم واحد في مدرسة وطنيّة تهتمّ باللبنانيّين باعتبارهم مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. وهذا يفرض وضع الخطط الدائمة للنضال النقابيّ، بشعارات ومطالب واضحة تسهم في تطوير النضال السياسيّ بما يخدم الخط النضاليّ العام، فالنقابة التي لا تستطيع أن تقود المنتمين إليها للدفاع عن مصالحهم، غير جديرة بالقيادة. كما أنّ النضال النقابيّ الفارغ من هدف سياسيّ، لا قيمة له. وهذا يعني أنّ وظيفة القوى الطليعيّة لا تقتصر على رفع الأجور وزيادة الرواتب، بل تتعدّاها إلى الدفاع عن التعليم بصورة عامة، وفضح دور النظام، بما يطوّر النضال لإسقاطه.
ولتحقيق هذه الغاية لا بدّ من تطوير دور التيّار النقابيّ المستقل، ضمن خطّة عامّة غايتها تطوير العمل النقابيّ العام، في إطار جامع ومنظّم للأطر النقابيّة التي تعارض سياسة الاتّحاد العمّاليّ العامّ، ولا سيّما الاتحاد الوطنيّ، والأطر الديموقراطيّة التي بدأت بالظهور في نقابات المهن الحرّة. ومن المفيد التشديد على العمل المنظّم لتأهيل قيادات جديدة، تستلم راية النضال النقابيّ في مجال التعليم. وهذا الأمر لا يحصل في غرف مغلقة، ولا يُفتَعَل افتعالا، بل توفّره ساحات النضال؛ فالقيادات النقابيّة لا تُعَيّن تعييناً، وإنّما تحتلّ مكانها الطليعيّ من خلال قدرتها على ممارسة العمل القياديّ، وتجربتها وإخلاصها، فكم من قيادات تسلّقت العمل النقابيّ، وسقطت بفعل انتهازيّتها وتملُّقها للسلطة.
* أستاذ مساعد – الجامعة اللبنانيّة
رئيس اتّحاد المعلّمين العالميّ